لماذا اسرائيل بصغر حجمها تفوق صادرتها اضعاف صادرات مصر

إسرائيل.. في عامها الستين!
يقوم الزميل «علي الفاضل» بكتابة سلسلة من المقالات في صحيفة «الوسط»، تتناول، كما يذكر، «بعض الاحداث المتعلقة بتسلسل الاوضاع في فلسطين وبداية السيطرة اليهودية حتى وصلت الحال الى ماهي عليه الآن». (2008/6/3).
غير أن معالجة الزميل الفاضل لقضية «السيطرة اليهودية» ونتائجها، كما هي ملاحظة حتى الآن، متأثرة بتناول كتب ومقالات الاسلاميين لليهودية والصهيونية واسرائيل ومن نفس الزاوية والفهم.
إن النجاح الذي حققته الحركة الصهيونية لا ينحصر بقدرتها كحركة سياسية على تجميع اليهود مرة ثانية فيما اعتبرته وطناً قومياً لهم في فلسطين، بل لقد امتد هذا النجاح الملفت للنظر والجدير بالتحليل إلى طبيعة الدولة التي اقامتها منذ عام 1948، كدولة عصرية متقدمة مستقرة ديموقراطية، رغم خليط الثقافات وتنوع الاحزاب، حققت اسرائيل هذه النجاحات، رغم حروب 1948 و 1956 و 1967 و1974، ورغم الحصار والمقاطعة العربية ومختلف انواع التهديدات، ورغم ضغوط الحرب الباردة الدولية ورغم كل محاولات العالم العربي في التخلص منها، ورغم ظهور النشاط الفدائي الفلسطيني والمخاطر الحالية التي تقودها تنظيمات مثل «حزب الله» اللبناني و «حماس» الفلسطيني.. وغير ذلك كثير! ان الكتابات الاسلامية والعربية عموماً تقف عند «نظرية المؤامرة» في ظهور إسرائيل، ولكنها لا تدرس بعناية كافية مثلا العطاء الثقافي والعلمي والتقني لليهود خلال القرون الاخيرة ومساهماتهم الكبيرة في الحضارة الحديثة ومدينة القرن العشرين، فمثل هذا الدور كان ولايزال من مرتكزات تعاطف الغربيين مع بقاء اسرائيل.
يمر الآن اكثر من ستين عاماً على ظهور اسرائيل، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية! خلال تلك الحرب، تعاطف العرب والمسلمون بقوة مع هتلر والنازية، وانتقلت للاسف عناصر عديدة من ثقافة الحركات الفاشية الى التيارات الوطنية والقومية والاسلامية. ولايزال الاعجاب بمنجزات ومعجزات هتلر واسع الانتشار في بلداننا وبين مثقفينا رغم الدمار الهائل الذي انزلته حروب هتلر بالالمان انفسهم وبجيرانهم ، ورغم وقوع اكثر من خمسين مليون انسان ضحايا لحروبه ومخططاته العدوانية.
ولاتزال القيم الديموقراطية والليبرالية الغربية، التي حاربتها النازية، ضعيفة التأثير في الحياة العربية، بل كانت هذه القيم على امتداد ستة عقود موضع استهانة المفكر والشارع العربي على حد سواء. قد حاولت الدول العربية خلال هذه السنوات البحث عن «هوية قومية» بعيداً عن «الديموقراطية الغربية»، ولايزال بحث الاسلاميين مستمراً عن «هوية إسلامية»، لايعرف احد ملامحها في القرن الحادي والعشرين، بين السنة والشيعة، وبين الاخوان والسلف وحزب التحرير.. وتنظيم القاعدة!
ورغم محاصرة كل الدول العربية المحافظة والثورية لاسرائيل، ورغم استعانة عدة أنظمة منها بالاتحاد السوفيتي والمعسكر الاشتراكي، ورفع شعار «لا صوت يعلو فوق صوت المعركة»، حيث صودرت الحريات الديموقراطية كلها في ظل هذا الشعار، رغم كل هذه الضغوط، ترسخت الحياة الحزبية في اسرائيل، ولم يلغ «النظام الصهيوني» الحياة البرلمانية ولم يصادر حرية الصحافة والفكر، بل ولم تمس السلطات الاسرائيلية حتى الحزب الشيوعي الاسرائيلي المتعاطف مع موسكو منذ بداية تشكيله والذي كان فوق ذلك يضم الكثير من الفلسطينيين مثل الشاعر محمود درويش وغيره، ويوالي الاتحاد السوفيتي وخصوم اسرائيل.
ونجحت اسرائيل عبر هذه السنوات في خلق دولة حديثة من الطراز الاول، حيث تجري الانتخابات فيها بانتظام بل وفي اسرائيل كذلك جماعات اسلامية! ونواب كنيست عرب يظهرون على شاشات الفضائيات العربية ويهاجمون بقوة سياسات اسرائيل. وهناك اليوم تعليم اسرائيلي عصري، وجامعات تنافس ارقى الجامعات الغربية، ومستشفيات تنافس المستشفيات الأمريكية.
أما عن مراكز الابحاث والعلماء والباحثين والمبتكرات والمخترعات.. فلا تسل!!
كل هذا التقدم المادي الهائل واسرائيل لا تملك عُشر ثروات دول الخليج والعرب وايران والمساعدات الخارجية الامريكية وغيرها لاسرائيل لا تقارن بملياراتنا التي لا تزيد بلداننا إلا تخلفا وتبذيرا كما ان المواطن في اسرائيل مواطن منتج دافع للضرائب، لا يعرف شيئا من وجوه الرفاهية والتبذير التي تنتشر في بلادنا.
وكانت اسرائيل في بداية ظهورها عام 1948 دولة شبه اشتراكية. ولكنها سرعان ما انتبهت للواقع الاقتصادي الدولي، فغيرت بنيتها الانتاجية بنجاح كبير. وهي تعاني اليوم من مشاكل كثيرة، ولكنها قادرة على التعامل معها كما تتعامل دول اوروبا وامريكا مع مشاكلها كالتضخم والبطالة والجريمة وغيرها.
ولم تزدهر الديموقراطية وحرية الفكر والبحث والتيارات السياسية وحدها في اسرائيل بل وازدهرت كذلك دولة القانون، فهي اقل الدول فسادا في المنطقة ماليا واداريا، ومن تثار حوله تهم الفساد من رجال الدولة تقوم من حوله الدنيا ولم تقعد ويُقدم للمحاكم لأبسط التهم. قارن هذا الوضع بما عليه الحال في دول العالمين العربي والاسلامي حيث الواسطة والمحسوبية وعلاقات القرابة والنفوذ والمناصب الدائمة المتوارثة!
ولو قارنا اسرائيل بأي دولة عربية في حجمها من ناحية التصدير مثلا مثل تونس، فسنجد ان صادرات اسرائيل تصل الى ما قيمته 43 مليار دولار مقابل نحو 12 مليار دولار لتونس، و24 مليار دولار للصادرات المصرية و7 مليارات لسورية وخمسة مليارات للصادرات الاردنية ورغم ان عدد سكان تركيا يبلغ نحو 12 ضعفا بالنسبة لاسرائيل إلا ان صادرات تركيا تبلغ 85 مليار دولار أي نحو ضعف صادرات إسرائيل فقط!
نحن في الواقع، يا زميلي الفاضل، نجهل اليهودية والصهيونية واسرائيل كل الجهل. ولا يزال الاعلام العربي الرسمي والمستقل عاجزا عن أي معالجة صريحة وعلنية في هذا المجال.
لقد عاصرت الحركة الصهيونية الحركة القومية في العالم العربي وحققت في النهاية دولة حديثة مستقرة لليهود بينما لم تنجح الحركة القومية العربية الا في اخراج القوى الاستعمارية من البلاد العربية دون ان تحقق النجاح المأمول في بناء الدولة الحديثة.
ولا تزال اسرائيل بمثابة تحد حضاري كبير لنا قبل اي اعتبار سياسي او عسكري. وفيما جمعت الحركة الصهيونية ودولة اسرائيل أقليات يهودية مشتتة في المشارق والمغارب تزايدت هجرة العقول والايدي والاقليات من بلدان العالم العربي والاسلامي الى نفس المشارق والمغارب.
ورغم كل ضغوط بناء الدولة في اسرائيل وتضارب ميول الاحزاب فيها وقوة الجيش وانتشار نفوذه لم تعرف اسرائيل الانقلابات العسكرية وحوادث الفتن والتمرد وتحركات الحرس القومي والحرس الجمهوري، ولم تهيمن الاستخبارات وقوى البوليس السري على حياة الناس او على حرية الصحافة ولم تقدس اسرائيل قادتها ولا اسبغت العطايا على جنرالاتها ولاخصت اقاربهم وابناء عشيرتهم بأية امتيازات كما هو الحال في العالم العربي.
وقارن مستوى الكتابة والتحليل والصراحة والواقعية في الصحافة الاسرائيلية على امتداد ستين عاما، مع كل ما عرفت الصحافة العربية من تلاعب بالعقول وتدخل الانظمة عبر شراء الاقلام وتأجير الصحف ووضع الكتاب والاعلاميين انفسهم في خدمة الانظمة القمعية وغير ذلك.
ولا تزال حرية الصحافة والفكر والابداع والثقافة في مأمن داخل اسرائيل اكثر من اي دولة عربية مجاورة لها او بعيدة عنها ولم يؤثر في هذه الحريات لا التهديد العربي ولا التهديد الايراني، لا حزب الله ولا حماس. وبينما تنطلق اسرائيل فكرا وصحافة، وبالطبع سياسة واقتصادا ومجتمعا في سماء القرن الحادي والعشرين نرى ان بطلا ثقافيا من ابطال هزيمة 1967 وخداع الجماهير مثل الكاتب محمد حسنين هيكل الذي لم يندم ولم ينتحر ولم يزدد الا ثراء ومكانة، لا يزال موضع اصغاء واجلال آلاف، مئات آلاف القراء والمشاهدين!
ان اسرائيل، زميلي الفاضل، تحد حضاري كبير لم نعتد على الارتقاء الى مستوى منافسته ولهذا لا نفكر الا في ازالتها بدلا من دراستها ومنافستها والتفوق عليها. التنادي للحرب والمغامرات العسكرية كتلك التي جربناها في لبنان عام 2006 اكثر اغراء لنا للاسف، و«الازالة» اكثر جاذبية من الدراسة وبذل الجهد الحضاري في التطوير واللحاق بالعصر.
هل جينات الاسرائيليين افضل من جيناتنا؟ كلا بالطبع ولكننا لم نسأل انفسنا يوما لماذا تقدمت اسرائيل وتأخرت دول العالم العربي؟ ولماذا اقتصادهم وتعليمهم ومستشفياتهم افضل؟ ولماذا الديموقراطية والقانون والحريات راسخة هناك في ذلك المجتمع «الهجين»، «اللقيط»، «الطارئ»، «المفتعل»، بينما تتخبط قرابة عشرين تجربة عربية ونيف وفوقها تجارب اسلامية عديدة في دهاليز التطور دون نجاح مماثل؟
بالطبع لا اريد ان ارسم صورة وردية لكل شيء في اسرائيل ولا اريد ان اغمض العين عن تاريخها وواقع العرب فيها وغير ذلك ولكن آن الأوان لانطلاق ثورة معرفية في هذا المجال وبخاصة بين الاسلاميين فيكفي انكبابنا على «بروتوكولات حكماء صهيون» و«احجار على رقعة الشطرنج» وكتب المؤامرات والمخططات البائسة التي لا تفسر اي شيء مما تحققه اسرائيل اليوم وما حققته بالامس، ولا تفسر كذلك ما نعاني منه وما عانينا منذ عام 1948.
انني اقترح باختصار على الزميل «علي الفاضل» الا يقف عند سؤاله عن «الفرق بين مؤتمراتنا ومؤتمراتهم»، بل ان يسأل نفسه مجموعة من الاسئلة الصعبة وان يطالع المزيد من الكتب والتقارير الواقعية عن اليهود والتجربة الصهيونية واسرائيل، فلعله يدرك بعض اسرار فشلنا ولعله يشرح لنا بعد ذلك بعض مستلزمات التقدم.

خليل علي حيدر
http://www.alwatan.com.kw/Default.aspx?MgDid=638403&pageId=161

أضف تعليق