عاشوراء الحسين مطهري وجدان الثأر / رشيد خيون

عاشوراء… ومراجعة مطهري


 تاريخ النشر: الأربعاء 13 يناير 2010


 إذا كانت محاولات المجتهدين الأمين (ت 1952)، والشهرستاني(ت 1967) لكبح الممارسات المتدنية، مثل اللَّطم والتسوط والتطبير، فإنَّ محاولة المجتهد مرتضى مطهري (اغتيل 1980)، وهو أحد أبرز رجالات الثورة الإسلامية بإيران، جاءت بمثابة مراجعة للنصوص التي تتلى عادة من على أعواد المنابر، وما فيها من أكاذيب ومبالغات، تُظهر الإمام الحسين بهذا الانكسار والضعف الشديدين، فالغرض هو ما يثير العبرات ويزيد النشيج والعويل، حتى أخذ النَّاس يميزون بين قراء المنبر: المُبَكي وغير المُبَكي! جاء ذلك في سِفر مطهري “الملحمة الحسينية” (3 أجزاء)، والذي تولى تعريبه الكاتب محمد صادق الحسيني.
عزا مطهري تشويه مقتل الحسين، ناقلاً من كتاب إصلاحي آخر هو “اللؤلؤ والمرجان”، إلى العهد الصفوي، والبداية كانت بكتاب “روضة الشهداء” للملا حسين الكاشفي (ت 910 هـ)، أي قبل خمسمائة عام، وكتابي “مُحرق القلوب”، و”أسرار الشهادة” لفقيهين آخرين. ومن اسم الكتاب الأول دخل مصطلح “الروزخون” على العزاء، أي قراءة كتاب “روضة الشهداء”. وهذا خلاف ما ذهب إليه باحثون من أن المصطلح جاء من الروضة الحسينية، أي قارئ مقتل الحسين، مثلما في “موسوعة الكنايات البغدادية” للمحقق عبود الشالجي (ت 1996).
كانت حسينية الإرشاد، والتي صدر من محاضراتها كتاب “الملحمة…”، وكتاب “التشيع العلوي والتشيع الصفوي” لعلي شريعتي (ت 1977)، مكاناً لمحاولات تخليص التشيع مما عَلق به من مختلقات أوجدت الشق الكبير بين الشيعة وبقية المذاهب، وفي المقدمة يأتي الحدث الحسيني. ولأهمية تلك الحسينية قال مطهري: “إننا لم نعمل شيئاً إذا ما أسسنا مثل هذه الحسينية باسم هؤلاء بعد مرور أربعة عشر قرناً” (الملحمة…).
ينقل مطهري عن مصلح سبقه، وهو الميرزا حسين النوري (ت 1902) وصف أنه من أعاظم علماء الشيعة (الغروي، مع علماء النَّجف)، أن ما يحصل في التعازي الحسينية، في هذا العصر، “إننا يجب أن نبكي الحسين (ع) ولكن ليس بسبب السَّيوف والرماح، التي أستهدفت جسده الطاهر الشريف في ذلك اليوم التاريخي، بل بسبب الأكاذيب التي أُلصقت بالواقعة” (الملحمة عن اللؤلؤ والمرجان).
وعندما يكتب أحد علماء الهند الشيعة شاكياً للميرزا النَّوري ما يحدث من أكاذيب، وترويج للمختلقات في التعزية الحسينية، يُعلق الأخير قائلاً: “إن هذا العالم الهندي يتصور أن قُراء التعزية الحسينية يبدؤون بنشر الأكاذيب بعد أن يصلوا الهند، ولا يدري أن المياه ملوَّثة من رأس النبع، وأن مصدر المآتم الكاذبة هي كربلاء والنَّجف وإيران، أي مراكز التشيع الأساسية نفسها” (نفسه).
تجد “الروزخون” يترنم ببيت من الشعر على لسان السيدة ليلى أم علي الأكبر: “نذر عليَّ لئن عادوا وإن رجعوا… لأزرعن طريق الطف ريحانا”، وبعد بحث مطهري عن حقيقة الحدث يجد أن ليلى لم تكن موجودة في حادثة الطف، وأن بيت الشعر هو لعاشق عربي، والمفردة هي ليست “الطف” بل “التَِّف” وهي ليست كربلاء ولا قريبة منها (الملحمة).
اختلاق آخر احتل موقعاً مهماً في العزاء الحسيني، ووقف مطهري طويلاً أمامه، ألا وهو ما يُعرف بـ”عرس القاسم” ليلة الطف، فكيف يشغل الإمام الحسين عرس ابن أخيه الحسن على ابنته سُكينة في تلك الليلة الرهيبة، وهو العارف أنه وابن أخيه سيقتلان صباحاً!
من عوامل التحريف، وتحويل قضية الحسين إلى معاش، وما يشاهد من ممارسات خارج الذائقة، هو حب البطولة، حتى أن مبارزة علي بن أبي طالب لعمرو بن ودَّ العامري شوهت وحولت الإمام علي إلى كائن مغترب عن إنسانيته وشجاعته المعهودة، بأن سيفه شق الخصم إلى نصفين، ونزل جبرائيل إلى الأرض “ووضع جناحيه تحت سيف عليٍّ حتى يخفف من وقع الضربة” (الملحمة)! كذلك جعلت المبالغات بسبب حب البطولة من العباس بن علي صاحب قدرات خارقة حتى بعد مقتله، وأنه شخصية أسطورية، حتى طغت على باقي الشخصيات، ويؤدى القسم به، وجعلوا رأسه حاراً لفرط شجاعته!
وهناك ما هو أهم من ذلك، وهو تركيز قُراء العزاء الحسيني على عظمة ثواب تلك المجالس والحضور إليها، حتى أن المشارك فيها مغفور الذنوب، قال الميرزا النوري ناقداً: “إن البعض يقول… البكاء على الحسين فيه من الثواب الكثير بحيث يمكن للمرء أن يستخدم هذه الوسيلة للتكفير عن كل ذنوبه”! (الملحمة).
هناك الكثير من النماذج التي أطنب عندها آية الله مطهري، ومنها التحريف اللفظي والتحريف المعنوي، والمقصود بالأخير هو حرف الدرس من مقتل الحسين، عندما يظهر وكأنه انتحاري عارفاً مسيقاً بقتله قبل أن يتحرك إلى العراق، وأنه لابد من أن تسبى النَّساء، وتحدث ملحمة العطش، فعلى ألسنة قُراء التعزية، وما ورد في الكتب المحرفة، أن العزاء الحسيني كان من قبل ولادة الحسين بعشرات القرون. وأنه لولا هذه التضحية التي يُراد لها أن تشبه تضحية السيد المسيح، لما بقى الإسلام، هذا ما نقده مطهري، وما نسمعه هذه الساعة من أفواه قُراء المجالس عبر الفضائيات.
يرى آية الله مطهري، وهو ممَنْ لا يُزايد على شيعيته وحبه للحسين: “سواء أكانت التعزية مختلقة أو كانت مُهينة لمدرسة الحسين وشخصيته التاريخية، أكانت صحيحة أو لم تكن! المهم أن يحصل عمل البكاء وتسيل الدموع” (نفسه). كأن هذا هو الهدف، وليس هناك أكثر من القصص التاريخية التي يبدعها “الروزخونية” من على المنبر عندما يرى قلة تأثر الحاضرين، وضعف استجابتهم للبكاء.
على أية حال، لم يرد السيد الأمين، ولا السيد هبة الدين، ولا الميرزا النوري، ولا آية الله مطهري، محو ذكرى الإمام الحسين، إنما وجدوا في ممارسات عاشوراء ما يتطلب إصلاحه، فالزمن أزف والعالم يتقدم، وتجار المواكب والروزخونية يريدون لسواد النَّاس الحياة في الكهوف، وها هي الألوف المؤلفة يتلاعب بعقولها مَنْ جعل لسفينة نوح مسماراً ينزف دماً، وآخر فَرق بين الأحجار؛ تلك مؤمنة وهذه كافرة، ويبشر بترك الاهتمام بالطب أو الزراعة أو الصناعة قبل العزاء.
لم يبق العزاء وترهات الروزخونية محصورة بمجلس أو بلدة، إنما أخذت تذاع عبر الفضاء، لهذا لابد من تجديد تلك الدعوات الإصلاحية، عبر علماء العصر، وفي سرِّ الأعلام منهم ليس من تقاطع مع المصلحين المذكورين، فالمسلمون جميعاً، والشيعة بخصوص عاشوراء، بحاجة ملحة إلى الإصلاح.
جريدة الاتحاد


===========


طريق الحسين ليس على بَعلبك..!


رشيد الخيّون


تاريخ النشر: الأربعاء 18 يناير 2012


أُحتفل يوم السَّبت الماضي (20 صفر 1433) بمناسبة “زيارة الأربعين”، وهي مرور أربعين يوماً على قتل الإمام الحسين (61 هـ)، وأُطرت بعودة الرُّؤوس إلى كربلاء. منذ العام الماضي أخذ “حزب الله” اللُّبناني يحتفل بهذه المناسبة، ودُشن ذلك بخطاب أمينه العام حسن نصر الله، ولتبرير الاحتفال، ولابد أن تكون المناسبة محسوسة، فأكد السَّيد مرور رأس الحسين ببعلبك إلى دمشق، لإحضاره أمام قاتله يزيد بن معاوية (ت 64 هـ).
قال: “رحلة السَّبي الطَّويلة التي أرادها القَتَلة لأهداف… حيث عبر هذا الموكب، موكب الأحزان وموكب السَّبايا، عبر البقاع، واللَّبوة، ومقنة، وصولاً إلى مدينة بعلبك حيث تحتشدون الآن، ومِن بعلبك إلى دمشق التي كانت في ذلك الحين عاصمة يزيد” (25 يناير 2011). ولا ندري دمشق عاصمة مَن، في تصور نصر الله، الآن والذَّبح جارياً فيها على قدم وساق؟!
كنت يومها ببيروت، وذهبت مع الذَّاهبين إلى بعلبك، ولما شاهدتُ مرقداً منيف البناء سألت أحد السَّدنة، فأجاب: “إنه مرقد خولة بنت الحسين، كانت في بطن أُمها فأجهضت، ودفن الجنين هنا”! فحُدد جنسه والاسم!؟ هنا تذكرتُ ما قاله لي سادن ضريح رأس الحسين بالقاهرة، لما سألته: هل الضَّريح لرأس الإمام فقط؟! أشاح السَّادن بوجهه قائلاً: “إنه لرأس وبدن الإمام”! قلتُ: كيف! فأنا مِن العِراق وزرت ضريح الإمام عشرات المرات، فكيف يكون مدفوناً بالقاهرة، وهو قُتل قبل تأسيسها بأكثر مِن ثلاثة قرون؟! قال: “أنتم يا أهل العِراق تكذبون، لما دُفن الرَّأس هنا، رغبةً من السِّت زينب لأنها تحب أهل مصر، حملت الملائكة البدن وألحقته به”! فقلت: أتعتقد أنتم المصريين صادقين في هذه الرِّواية ونحن كذابين؟! فسحبني الصَّحفي المصري عزمي عاشور إلى خارج الضَّريح خشية مِن غضب السَّادن!
لستُ ضد الاحتفال بأية مناسبة، حقيقة كانت أو مختلقة، لكن مِن حقنا الوقوف على التَّاريخ، ومدى توظيفه طائفياً في الخصومات الحزبية. فـ”نصر الله”، لم يتحدث عن الزِّيارة مثلما أهلنا يمارسونها ويتبركون بالضَّريح بلا قصد احتقان سياسي. فخطابه كان سياسياً، والجمهور المستمع له يغدو، في تلك اللحظة، جامعاً بين قتلة الحسين وخصوم السَّيد، وتلك هي المأساة.
لا ندري ما هي مصادر مرور موكب الرُّؤوس عبر بعلبك، وأن زوجة الحسين أجهضت هناك، وكانت أُنثى فارتفع الضَّريح، وأي طريق تربط بعلبك اللبنانية بكربلاء العِراقية؟! فالطَّريق التي تتبعناها، مع المؤرخين والجغرافيين، تمرُّ مِن الكوفة إلى الشَّام عبر الأنبار، وما حصل مِن تقابل الجيوش في معركة صفين (37 هـ)، بين الشَّام والعِراق، كان في أقصى غرب الأنبار، أو تمر الطَّريق عبر الموصل فسنجار إلى حلب! فكيف اتجه الموكب إلى بعلبك؟! ثم كيف تتحمل الرُّؤوس المسافات، التي قدرها السَّيد بألفي كيلو متر؟! كي نجعل الحسين مثالاً في العدل علينا الاعتدال والصدق عند مخاطبة العقول، فإذا كانت القصة خارج المعقول فما هو المأمول منها؟!
أرفض مثل هذه القضية المغيبة للعقل، وما أُختلق في مأساة الحسين، مثلما رفضت أُكذوبة خيانة الوزير المثقف مؤيد الدِّين بن العلقمي (ت 656 هـ)، أو ما شاع مِن وجود شخصية عبد الله بن سبأ الأُسطورية، أو أكذوبة “رفس” عمر بن الخطاب (اغتيل 23 هـ) للسَّيدة فاطمة، التي لا يُساء في إشاعتها إلا لشخص بعلها علي بن أبي طالب (اغتيل 40 هـ)، قبل غيره.
هذه الجموع التي تُحشَّد لزِّيارة الأربعين بُنيت على الاستخفاف بالعقل عند توظيفها سياسياً، بل إنها قتل ثان للحسين. فلو يُترك الحسين بعيداً عن استغلال تُجار السِّياسة، بتحويل ذِكراه إلى هراوة ضد الخصوم، مثلما هو الحال بلبنان، ولافتة في الانتخابات، كي يُسرق ويُسلب المال تحت ظلها، مثلما يحدث بالعراق.
لا يرتاح مَن يسعى لتوظيف مختلقات التَّاريخ في السِّياسة الطَّائفية لما طرحه آية الله مُرتضى مطهري (اغتيل 1979) في شأن عودة الرُّؤوس إلى كربلاء، فكيف بالمرور عبر بعلبك. قال: “النَّموذج الآخر للتَّحريف هو يوم الأربعين، عندما يحين موعد الأربعين نسمع جميعاً بالتَّعزية الخاصة بيوم الأربعين، والنَّاس جميعاً يعتقدون بأن الأسرى مِن آل بيت الرَّسول قد ذهبوا في ذلك اليوم مِن الشَّام إلى كربلاء… هذه القصة لا تذكرها الكتب المعتبرة إطلاقاً، كما أنه ليس هناك دليلاً عقلي على حصولها”(مطهري، الملحمة الحُسينية).
فطريق الموكب كانت مِن الشَّام إلى الحجاز، فماذا يفعل الأطفال والنِّساء في العودة إلى العراق، هل لحرق قلوبهم!(حسب مطهري). أما دفن الرأس فانظروا ما توصل إليه السَّيد محسن الأمين (ت 1954) في موسوعته “أعيان الشِّيعة”، إنه بالشَّام.
لم يتفرد رجال الشِّيعة بالمبالغات في قضية الحسين فقط، إنما نجد ذلك لدى رجال السُّنَّة أيضاً. فكتب الشَّيخ نعمان الآلوسي (ت 1899)، نجل أبي الثَّناء الآلوسي (ت 1854): إن الجنَّ بكت الحسين، وأن جبرائيل عرف قبره ودلَّ رسول الله عليه، وما حفظه الآلوسي من ندبِّ نساء الجنِّ على الحسين: “أبكي قتيلاً بكربلاء.. مضرج الوجه بالدِّماء” (الآلوسي، غالية المواعظ).
لسنا ساعين إلى إلغاء الأربعين، ما زال النَّاس يتأسون بها، لكن عندما تُنتزع البراءة الاجتماعية عنها، وتتحول إلى رايات طائفية، هنا لابد مِن قول الكلمة. حاولت طويلاً إيجاد ربط بين بعلبك وكربلاء في هذه القضية في أُمهات التاريخ فلم أجده، مع أن المؤرخين أطنبوا عند مقتل الحسين، فمَن يُقارن بين القصة التي تقرأ على المنابر سيجدها نصاً لدى الطَّبري (ت 310) في “تاريخ الأمم والملوك”. لم أجد لها أثراً في مصادر معروفة بميلها للتَّشيع: “تاريخ اليعقوبي” لابن واضح اليعقوبي (ت 297 هـ)، “مروج الذَهب” لأبي الحسن المسعودي (ت 346 هـ)، “مقاتل الطَّالبيين” لأبي فرج الأصفهاني (ت 356 هـ)، و”الفخري” لابن الطَّقطقي (ت 708 هـ). أقول: كيف تنبه “نصر الله” ليجعل مِن بعلبك محطةً للسبايا، لتحويلها إلى بلدة دينية، ومسح تاريخها الحضاري بقضية مختلقة لا ترفع الحسين درجةً، بقدر ما تكون قلعة جديدة مِن قلاع حزبه. أشار في خطابه أن خصومه السِّياسيين هم درك ذلك الموكب! يكفي ما عندنا مِن مختلقات، كي يُسعى إلى خلق المزيد، فاتركوا اللعب بآلام الحسين، ورفقاً بذكراه وبعقولنا!


جريدة الاتحاد


=====================

عاشوراء… شعائر أم شعارات؟!


رشيد الخيّون


تاريخ النشر: الأربعاء 07 ديسمبر 2011


غلب على الظن أنه ليس هناك حدث دخل الوجدان، على مدى العصور، مثل مقتل الإمام الحسين بن علي (قُتل 61 هـ). بالمقابل ليس من حدث وظف في السياسة والحزبية والتجارة بحجم توظيفه، وعلى مدى العصور أيضاً. هنا يأتي المميز بين الشعائر والشعارات. المقصود في الأولى ما عمل لطاعة الله في الحج (الجوهري، الصحاح)، أما الثَّانية فتتحمل أكثر من مقصد، ذلك إذا علمنا أن الشعار هو علامة القوم في الحرب، ويقال لِما ولى الجسد من ثياب: شِعاراً (المصدر نفسه)، أي يُعرف به الإنسان.
وردت الشعائر، لا الشعارات، في أربعة مواضع مِن الكتاب العزيز: “إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ” (البَقرة: 158)، و”يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ …” (المائدة: 2)، و”ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ” (الحِج: 32)، و”وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ” (الحج: 36). كذلك ورد: “فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ” (البقرة:198)، والمَشعر هو المزدلفة بعينها (الطَّبرسي، مجمع البيان). بمعنى أن كلَّ ما يتعلق بالشعائر كان يختص بعبادة الله في حج بيته الحَرام لا سواها.
مع العاطفة النبيلة تجاه عاشوراء، الذي امتد إلى عشرة أيام، في فترات لاحقة، وصار شِعاراً لغايات دول وسلاطين لا لقتيل كربلاء، نسأل كيف جُعل ما يؤدى في عاشوراء، مِن كلِّ عام، على أنه شعائر الله، وهذا ليس في القول الشائع الذائع على لسان الناس فحسب، وإنما يُثقف به في كتب وتعاليم، مِن هذا عنوان كتاب للشَّيخ آية الله محمد مهدي الآصفي “الشَّعائر والشِّعارات الحُسينية” (النَّجف 2009)، الذي يُلازم فيه بين الشعيرة والشعار، ويرفع الأخير ثأراً مفتوحاً.
سعى الآصفي في كتابه المذكور إلى تكريس ثقافة الثأر، ولم يجعل لقتل الإمام الشهيد تاريخاً محدداً ولا مسؤولية رجال بعينهم، إنما أطلق الحدث إلى مدى الدهرِ كله، والأجيال المتعاقبة قاطبةً عليها أن تمثل دور القاتل والمقتول، ليس بما يسمى السبايا أو التشبيه في العاشر مِن محرم، إنما على الحقيقة لا المجاز، حتى ظهور المهدي المنتظر. فمن السنة 61 هـ، ومروراً بلحظة الغياب (326 هـ)، وحتى زمننا وما بعده يجب ألا تخلو الدنيا من تقابل الحسين وقاتله إلى أبد الآبدين! مع علمنا أن مؤلف الكتاب ليس بالمعمم الثانوي، إنما يعد من الجيل الثاني في حزب طلب إقامة نظام إسلامي، حسب ما رُفع من شعار ينام في ظله المواطن ملء جفونه، وهو يقدم على أنه آية الله، بمعنى أنه بلغ درجة الاجتهاد، وأن له مقلدين.
كتب الآصفي: “الصراع قائم بين أنصار الحسين على امتداد التاريخ وخصومه. ولم تنقطع المقابلة والمواجهة بين جبهة الأنصار والخصوم منذ يوم عاشوراء، من سنة 61 هـ إلى اليوم البتة، وسوف يمتد ويستمر هذا الصراع حتى يظهر من يثأر لخط الحسين ودعوته آخر الزمان، وهو المهدي من آل محمد” (الشعائر والشعارات، ص 17).
هكذا، باسم الحسين يخلد الثأر فاعلاً في الصدور ضاخاً الكراهية في الرؤوس ضد المختلف، من له رأي مخالف تجاه مذهب أو دين يصنف عدواً للحسين. يرى المشتركون في المواكب، وبدافع حماسة العاطفة الجمعية، أن كل من لا يلبس السواد ولا يلطم صدره ويفلق هامته أنه مطلوب بدم الحسين، وعلى مدى الأزمان والأحقاب، كم يصير للحسين أعداء في هذه الدنيا.
مع أن الله خلق الناس مختلفين “وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً” (المائدة: 48)، ولم يجعل لأحد، بمن فيهم الأنبياء، إجبار الناس على عقيدة: “أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ” (يونس: 99). فما هو وجه خلود المقابلة بين الحسين وقاتله، بلا تعيين زمن، إذا لم تكن لغايات أُخر غير الحسين نفسه.
بينما يقول الآصفي في ديمومة الثأر: “إن هذا الصِّراع يمتد من جيل إلى جيل، ومن أرض إلى أرض، وما أصدق الكلمة المعروفة: كل أرضٍ كربلاء وكل يوم عاشوراء” (ص 14). لا أدري متى يرى الآصفي الشروع بالعُمران، وهو رجل كان حزبياً وغض الطَّرف عن فكرة الانتظار ليُقيم دولة إسلامية، وعاش في ظل دولة كان يُجاهد لتحقيق مثلها بالعراق، فهل انتهى فيها هذا الصراع الأبدي؟! وقُرت العدالة المثالية؟! وهل المنتظر أو الموعود مهمته الثأر؟! فما هذا التزييف للعقل، وتشويه شخصية الحسين نفسها! وتحويله إلى إنسان سلبي لا هم له سوى الثأر لنفسه. لماذا يراد له أن يكون عنواناً للثأر! إنه دور يُنفذ باسمه، والمستفيد هو المبشر بهذه الثقافة. فدعوا الناس يبكونه لأنهم يحبونه، لا يحملهم على الثأر مثلما تحملهم عليه باسمه هذه الكائنات الحزبية.
أقول: هل نظر الآصفي، ومن يقول بخلود الثأر باسم الحسين، في جواب الإمام علي بن أبي طالب (اغتيل 40 هـ) للذين طالبوه بتطبيق حكم الله، وهو علي!: “كَلِمَةُ حَقٍّ يُرَادُ بِهَا بَاطِلٌ! نعم إِنه لا حكم إِلا للهِ، ولكن هؤلاءِ يقولون: لاَ إِمْرَةَ، فَإِنَّهُ لاَبُدَّ لِلنَّاسِ مِنْ أَمِير بَرّ أَوْ فَاجِر، يَعْمَلُ فِي إِمْرَتِهِ الْمُؤْمِنُ، وَيَسْتَمْتِعُ فِيهَا الْكَافِرُ” (نهج البلاغة). فهل ميزَّ الآصفي بين الحُكم والإمرة أولاً؟! وهل أعطى الحق لمخالفه، مثلما قالها أبو الحسن: دولة “يَسْتَمْتِعُ فِيهَا الْكَافِرُ”، مِن دون عَده عدواً للحُسين؟!
إن الألم يعصر قلب الناظر في مظلومية الحسين، وهي تتحول إلى مظلومية للشيعة كافة، وهم يظلمون من قبل عقول تسعى لتحويلهم إلى جماعات تحمل شعارات على أنها شعائر، وقد زُيفت في أذهانهم قضية الحسين نفسها، إلى القبول بواقع رديء، يستغل عاطفتهم فيه أهل المصالح والمطامح.
أما الحسين، فحسب ما يتجلى في الأذهان مِن منزلته العظيمة، فإنه ليس طالب ثأرٍ، ولا راغب بشعائر تجلب المنافع للرؤساء باسمه. فهل ثأر جده من وحشي الحبشي قاتل عمه حمزة؟ (3 هـ)!
اتقوا الله في الحسين أولا، وفي الشيعة ثانياً، مما تثقفون به من خلود عاطفة الثأر، وإشغال العراقيين عن البناء وفضح المفسدين. أظن أن طلبة كربلاء في تظاهرتهم للتقليل من المبالغات بالمناسبات، هم الأقرب إلى الحسين، فهم يعيشون في دائرة ضريحه، ويدركون مصلحة الحسين بتفوقهم العلمي، لا بتركهم مقاعد الدراسة طوال محرم وصفر ومواليد وولادات الأئمة.
جريدة الاتحاد

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s


%d مدونون معجبون بهذه: